كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



فلنحاول أن نتفهم أسرار هذه العقيدة قبل أن نفتي فيها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. ولنحاول أن نكون أكثر أدباً مع الله؛ فيما نعلم وفيما لا نعلم على السواء.
كذلك يقودنا الحديث عن التيمم للصلاة عند تعذر الطهارة بالوضوء أو الغسل أو ضررها إلى لفتة أخرى عن الصلاة ذاتها.
عن حرص المنهج الإسلامي على إقامة الصلاة؛ وإزالة كل عائق يمنع منها.. فهذا الحكم بالإضافة إلى الأحكام الأخرى كالصلاة عند الخوف والصلاة في حالة المرض من قعود أو من استلقاء حسب الإمكان.. كل هذه الأحكام تكشف عن الحرص البالغ على إقامة الصلاة؛ وتبين إلى أي حد يعتمد المنهج على هذه العبادة لتحقيق أغراضه التربوية في النفس البشرية. إذ يجعل من لقاء الله والوقوف بين يديه وسيلة عميقة الأثر، لا يفرط فيها في أدق الظروف وأحرجها؛ ولا يجعل عقبة من العقبات تحول بين المسلم وبين هذا الوقوف وهذا اللقاء.. لقاء العبد بربه.. وعدم انقطاعه عنه لسبب من الأسباب.. إنها نداوة القلب، واسترواح الظل، وبشاشة اللقاء..
ويعقب على أحكام الطهارة، وعلى ما سبقها من الأحكام بتذكير الذين آمنوا بنعمة الله عليهم بالإيمان، وبميثاق الله معهم على السمع والطاعة، وهو الميثاق الذي دخلوا به في الإسلام- كما تقدم- كما يذكرهم تقوى الله، وعلمه بما تنطوي عليه الصدور:
{واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور}..
وكان المخاطبون بهذا القرآن أول مرة يعرفون- كما قدمنا- قيمة نعمة الله عليهم بهذا الدين. إذ كانوا يجدون حقيقتها في كيانهم، وفي حياتهم، وفي مجتمعهم، وفي مكانهم من البشرية كلها من حولهم. ومن ثم كانت الإشارة- مجرد الإشارة- إلى هذه النعمة تكفي، إذ كانت توجه القلب والنظر إلى حقيقة ضخمة قائمة في حياتهم ملموسة.
كذلك كانت الإشارة إلى ميثاق الله الذي واثقهم به على السمع والطاعة، تستحضر لتوها حقيقة مباشرة يعرفونها. كما كانت تثير في مشاعرهم الاعتزاز حيث تقفهم من الله ذي الجلال موقف الطرف الآخر في تعاقد مع الله، وهو أمر هائل جليل في حس المؤمن، حين يدرك حقيقته هذه ويتملاها..
ومن ثم يكلهم الله في هذا إلى التقوى. إلى إحساس القلب بالله، ومراقبته في خطراته الخافية:
{واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور}..
والتعبير {بذات الصدور} تعبير مصور معبر موح، نمر به كثيراً في القرآن الكريم. فيحسن أن ننبه إلى مافيه من دقة وجمال وإيحاء. وذات الصدور: أي صاحبة الصدور، الملازمة لها، اللاصقة بها. وهي كناية عن المشاعر الخافية، والخواطر الكامنة، والأسرار الدفينة. التي لها صفة الملازمة للصدور والمصاحبة. وهي على خفائها وكتمانها مكشوفة لعلم الله، المطلع على ذات الصدور..
ومن الميثاق الذي واثق الله به الأمة المسلمة، القوامة على البشرية بالعدل.. العدل المطلق الذي لا يميل ميزانه مع المودة والشنآن؛ ولا يتأثر بالقرابة أو المصلحة أو الهوى في حال من الأحوال. العدل المنبثق من القيام لله وحده بمنجاة من سائر المؤثرات.
والشعور برقابة الله وعلمه بخفايا الصدور.. ومن ثم فهذا النداء:
{يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}..
لقد نهى الله الذين آمنوا من قبل أن يحملهم الشنآن لمن صدوهم عن المسجد الحرام، على الاعتداء. وكانت هذه قمة في ضبط النفس والسماحة يرفعهم الله إليها بمنهجه التربوي الرباني القويم. فهاهم أولاء ينهون أن يحملهم الشنآن على أن يميلوا عن العدل.. وهي قمة أعلى مرتقى وأصعب على النفس وأشق. فهي مرحلة وراء عدم الاعتداء والوقوف عنده؛ تتجاوزه إلى إقامة العدل مع الشعور بالكره والبغض! إن التكليف الأول أيسر لأنه إجراء سلبي ينتهي عند الكف عن الاعتداء. فأما التكليف الثاني فأشق لأنه إجراء إيجابي يحمل النفس على مباشرة العدل والقسط مع المبغوضين المشنوئين!
والمنهج التربوي الحكيم يقدر ما في هذا المرتقى من صعوبة. فيقدم له بما يعين عليه:
{يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله...}
ويعقب عليه بما يعين عليه أيضاً:
{واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}..
إن النفس البشرية لا ترتقي هذا المرتقى قط، إلا حين تتعامل في هذا الأمر مباشرة مع الله. حين تقوم لله، متجردة عن كل ما عداه. وحين تستشعر تقواه، وتحس أن عينه على خفايا الضمير وذات الصدور.
وما من اعتبار من اعتبارات الأرض كلها يمكن أن يرفع النفس البشرية إلى هذا الأفق، ويثبتها عليه. وما غير القيام لله، والتعامل معه مباشرة، والتجرد من كل اعتبار آخر، يملك أن يستوي بهذه النفس على هذا المرتقى.
وما من عقيدة أو نظام في هذه الأرض يكفل العدل المطلق للأعداء المشنوئين، كما يكفله لهم هذا الدين؛ حين ينادي المؤمنين به أن يقوموا لله في هذا الأمر؛ وأن يتعاملوا معه، متجردين عن كل اعتبار.
وبهذه المقوّمات في هذا الدين كان الدين العالمي الإنساني الأخير؛ الذي يتكفل نظامه للناس جميعاً- معتنقيه وغير معتنقيه- أن يتمتعوا في ظله بالعدل؛ وأن يكون هذا العدل فريضة غلى معتنقيه، يتعاملون فيها مع ربهم، مهما لاقوا من الناس من بغض وشنآن..
وإنها لفريضة الأمة القوامة على البشرية. مهما يكن فيها من مشقة وجهاد.
ولقد قامت هذه الأمة بهذه القوامة؛ وأدت تكاليفها هذه؛ يوم استقامت على الإسلام. ولم تكن هذه في حياتها مجرد وصايا، ولا مجرد مثل عليا، ولكنها كانت واقعاً من الواقع في حياتها اليومية، واقعاً لم تشهد البشرية مثله من قبل ولا من بعد، ولم تعرفه في هذا المستوى إلا في الحقبة الإسلامية المنيرة.. والأمثلة التي وعاها التاريخ في هذا المجال كثيرة مستفيضة. تشهد كلها بأن هذه الوصايا والفرائض الربانية، قد استحالت في حياة هذه الأمة منهجاً في عالم الواقع يؤدى ببساطة، ويتمثل في يوميات الأمة المألوفة.
إنها لم تكن مثلاً عليا خيالية، ولا نماذج كذلك فردية. إنما كانت طابع الحياة الذي لا يرى الناس أن هناك طريقاً آخر سواه.
وحين نطل من هذه القمة السامقة على الجاهلية في كل أعصارها وكل ديارها- بما فيها جاهلية العصور الحديثة- ندرك المدى المتطاول بين منهج يصنعه الله للبشر، ومناهج يصنعها الناس للناس. ونرى المسافة التي لا تعبر بين آثار هذه المناهج وآثار ذلك المنهج الفريد في الضمائر والحياة.
إن الناس قد يعرفون المبادئ؛ ويهتفون بها.. ولكن هذا شيء، وتحقيقها في عالم الواقع شيء آخر.. وهذه المبادئ التي يهتف بها الناس للناس طبيعي، ألا تتحقق في عالم الواقع.. فليس المهم أن يُدعى الناس إلى المبادئ؛ ولكن المهم هو من يدعوهم إليها.. المهم هو الجهة التي تصدر منها الدعوة.. المهم هو سلطان هذه الدعوة على الضمائر والسرائر.. المهم هو المرجع الذي يرجع إليه الناس بحصيلة كدهم وكدحهم لتحقيق هذه المبادئ..
وقيمة الدعوة الدينية إلى المبادئ التي تدعو إليها، هو سلطان الدين المستمد من سلطان الله، فما يقوله فلان وعلان علام يستند؟ وأي سلطان له على النفوس والضمائر؟ وماذا يملك للناس حين يعودون إليه بكدحهم وكدهم في تحقيق هذه المبادئ؟
يهتف ألف هاتف بالعدل. وبالتطهر. وبالتحرر. وبالتسامي. وبالسماحة. وبالحب. وبالتضحية. وبالإيثار... ولكن هتافهم لا يهز ضمائر الناس؛ ولا يفرض نفسه على القلوب. لأنه دعاء ما أنزل الله به من سلطان!
ليس المهم هو الكلام.. ولكن المهم من وراء هذا الكلام!
ويسمع الناس الهتاف من ناس مثلهم بالمبادئ والمثل والشعارات- مجردة من سلطان الله- ولكن ما أثرها؟ إن فطرتهم تدرك أنها توجيهات من بشر مثلهم. تتسم بكل ما يتسم به البشر من جهل وعجز وهوى وقصور. فتتلقاها فطرة الناس على هذا الأساس. فلا يكون لها على فطرتهم من سلطان! ولا يكون لها في كيانهم من هزة، ولا يكون لها في حياتهم من أثر إلا أضعف الأثر!
ثم إن قيمة هذه الوصايا في الدين، أنها تتكامل مع الإجراءات لتكييف الحياة. فهو لا يلقيها مجردة في الهواء.. فأما حين يتحول الدين إلى مجرد وصايا؛ وإلى مجرد شعائر؛ فإن وصاياه لا تنفذ ولا تتحقق! كما نرى ذلك الآن في كل مكان..
إنه لابد من نظام للحياة كلها وفق منهج الدين؛ وفي ظل هذا النظام ينفذ الدين وصاياه. ينفذها في أوضاع واقعية تتكامل فيها الوصايا والإجراءات!.. وهذا هو الدين في المفهوم الإسلامي دون سواه.. الدين الذي يتمثل في نظام يحكم كل جوانب الحياة.
وحين تحقق الدين بمفهومه هذا في حياة الجماعة المسلمة أطلت على البشرية كلها من تلك القمة السامقة؛ والتي ما تزال سامقة على سفوح الجاهلية الحديثة؛ كما كانت سامقة على سفوح الجاهلية العربية وغيرها على السواء.
وحين تحول الدين إلى وصايا على المنابر؛ وإلى شعائر في المساجد؛ وتخلى عن نظام الحياة.. لم يعد لحقيقة الدين وجود في الحياة!
ولا بد من جزاء للمؤمنين من الله، الذي يتعاملون معه وحده؛ يشجع ويقوي على النهوض بتكاليف القوامة؛ وعلى الوفاء بالميثاق. ولابد أن يختلف مصير الذين كفروا وكذبوا عن مصير الذين آمنوا وعملوا الصالحات عند الله:
{وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم}..
إنه الجزاء الذي يعوض الخيرين عما يفوتهم من عرض الحياة الدنيا- وهم ينهضون بالتكاليف العليا- والذي تصغر معه تكاليف القوامة على أهواء البشرية وعنادها ولجاجها في هذه الأرض.. ثم هو العدل الإلهي الذي لا يسوي بين جزاء الخيرين وجزاء الأشرار!
ولا بد من تعليق قلوب المؤمنين وأنظارهم بهذا العدل وبذلك الجزاء. لتتعامل مع الله متجردة من كل النوازع المعوقة من ملابسات الحياة.. وبعض القلوب يكفيها أن تشعر برضاء الله؛ وتتذوق حلاوة هذا الرضى؛ كما تتذوق حلاوة الوفاء بالميثاق.. ولكن المنهج يتعامل مع الناس جميعاً. مع الطبيعة البشرية والله يعلم من هذه الطبيعة حاجتها إلى هذا الوعد بالمغفرة والأجر العظيم. وحاجتها كذلك إلى معرفة جزاء الكافرين المكذبين! إن هذا وذلك يرضي هذه الطبيعة. يطمئنها على مصيرها وجزائها؛ ويشفي غيظها من أفاعيل الشريرين! وبخاصة إذا كانت مأمورة بالعدل مع من تكره من هؤلاء! بعد أن تلقى منهم ما تلقى من الكيد والإيذاء.. والمنهج الرباني يأخذ الطبيعة البشرية بما يعلمه الله من أمرها؛ ويهتف لها بما تتفتح له مشاعرها، وتستجيب له كينونتها.. ذلك فوق أن المغفرة والأجر العظيم دليل رضى الله الكريم؛ وفيهما مذاق الرضى فوق مذاق النعيم.
ويمضي السياق يقوِّي في الجماعة المسلمة روح العدل والقسط والسماحة؛ ويكفكف فيها شعور العدوان والميل والانتقام.. فيذكر المسلمين نعمة الله عليهم في كف المشركين عنهم، حين هموا في عام الحديبية- أو في غيره- أن يبسطوا إليهم أيديهم بالعدوان:
{يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ همَّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون}..
وتختلف الروايات في من تعنيهم هذه الآية. ولكن الأرجح أنها إشارة إلى حادثة المجموعة التي همت يوم الحديبية أن تغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين، فتأخذهم على غرة. فأوقعهم الله أسارى في أيدي المسلمين (كما فصلنا ذلك في تفسير سورة الفتح).
وأياً ما كان الحادث، فإن عبرته في هذا المقام هي المنشودة في المنهج التربوي الفريد، وهي إماتة الغيظ والشنآن لهؤلاء القوم في صدور المسلمين.
كي يفيئوا إلى الهدوء والطمأنينة وهم يرون أن الله هو راعيهم وكالئهم. وفي ظل الهدوء والطمأنينة يصبح ضبط النفس، وسماحة القلب، وإقامة العدل ميسورة. ويستحيي المسلمون أن لا يفوا بميثاقهم مع الله؛ وهو يرعاهم ويكلؤهم، ويكف الأيدي المبسوطة إليهم.
ولا ننس أن نقف وقفة قصيرة أمام التعبير القرآني المصور:
{إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم}..
في مقام: إذ همَّ قوم أن يبطشوا بكم ويعتدوا عليكم فحماكم الله منهم..
إن صورة وحركة بسط الأيدي وكفها أكثر حيوية من ذلك التعبير المعنوي الآخر.. والتعبير القرآني يتبع طريقة الصورة والحركة. لأن هذه الطريقة تطلق الشحنة الكاملة في التعبير؛ كما لو كان هذا التعبير يطلق للمرة الأولى؛ مصاحباً للواقعة الحسية التي يعبر عنها مبرزاً لها في صورتها الحية المتحركة.. وتلك طريقة القرآن.